تبقى الصباحات التي تبدأ بقراءة كتاب وتنتهي بتدوينة هي الأفضل على الإطلاق..
الشمس تتوسط بأشعتها غرفتي وتداعب مفارش الأسرة، وتُعلن بداية صبح جديد، كان عليّ حينها أن أفتح نافذتي لأطلق لتغريد العصافير العبور من خلالها.
بالتأكيد وجّب أن تتراقص قهوتي على النار حتى أشعر بصبح الإجازة فعلًا، و أنّ علي أن أستمتع بقدر ما أستطيع. الصباح السعيد يعني البقاء على السرير وبين يدي دفتي كتاب و قهوة سمراءُ مرّة.
وعلى عكس أيام الدراسة فإن الطاولة المجاورة لسريري في هذا اليوم تمتلئ بأنواع الكتب، تختبئ بداخلها الفواصل باختلاف ما توقفت عنده في كل كتاب..
أو بحسب مدة دهشتي معه ربما.. رغم أنها ليست الغاية دائمًا.
بدأت قراءتي منذ سن صغير ومبكر جدًا، لكن العالق بذاكرتي فعلًا هو الشعور المتجدد كل يوم أربعاء لاستقبال مجلة ماجد ، و رغم أنها كانت تُخبأ عني حتى لا أقرأها قبل البقية، إلا أنني في كل مرة كنت أسترق النظر إلى أهم ما أوّد فيها و أعيدها إلى مخبأها إلى حين دوري من جديد. وبالرغم من أنني كنت في منزل قارئ ويشجع على القراءة، ويوفّر الكثير من القصص منذ مرحلة ماقبل المدرسة، باختلاف التصنيفات والأشكال، إلا أنّ مجلة ماجد كانت الأكثر قربًا، فهي المتوفرة بشكل دوري، كما أنها تحمل شخصيات مختلفة تحملك كل واحدة منها إلى جو آخر بقصص ظريفة وبسيطة، قصص أخرى غير مصوّرة. معلومات مختلفة ومبسّطة وبعض الأحجيات أيضًا.
اضطررنا للانتقال من منزلنا في تلك الفترة مع ما يقارب المئات من مجلات ماجد التي بدأت معها القراءة بأبسط و أجمل أنواعها، قمت بتوزيعها على أقاربي نظرًا لأن حملها معي مستحيلًا بالمرة.
كانت فترة طفولتي بين المجلات إلى مجموعات القصص النبوية ، والكثير الكثير من القصص المصوّرة و البوليسية البسيطة، وصولًا إلى مجلدات ميكي التي كنت ألتهمها فورًا بمجرد وصولي المنزل وتحت غطاء السرير حتى لا تؤخذ مني ، رغم محاولات الشرح البائسة لي بأنّ عليّ أن أقرأها بالتدريج حتى لا يصيبني الملل في اليوم التالي من شرائي لها. لا أتذكر أبدًا أنني انجذبت إلى التلفاز قبل الحادية عشر من عمري على الأقل، ومن هنا بدأت التدرّج أيضًا إلى الكتب البسيطة من علم النفس وما شابهها، بحكم أنها كانت تثري في نفسي الكثير الكثير من الفضول .
كنت أنتظر الإجازة على شغف فالموعد يتجدد مع المكتبة، ورغم أنّ مشاعري لا تختلف في كل مرة أقف عند مكتبة، إلا أنني أعتقد أن حماسة الانتظار بالطفولة كانت أمتع.
كبرت على هذا النوع من الحب بيني وبين الكتب، باستثناء أنني كنت سابقًا أهب كتبي بلا عودة بينما اليوم أعيرها لأشخاص معينين فقط وأشعر بأنني أضغط على قلبي بهذا الفعل. عمومًا أرى أنها خطوة للخلف ، لكن مهما يكن.
بدأت بكتب بسيطة جدًا، ثم أصبحت أتجوّل بين التاريخ والطب والأديان والفلسفة، وفي كل مرة أتناول كتاب ما، أشعر بحجم ضآلتي في هذا العالم ، وعظمة ما لا أعرفه عنه.
يثير عجبي كيف يمتلئ الكون بكل هذه الأسرار، كيف للتاريخ أن يكرر نفسه بلا ملل، وكيف يقوم الناس بإعادة السيناريوهات مهما باختلاق أسبابها وتشابه النتائج. يذهلني حين أعرف أن كثير من مفاهيمنا في تفسير الأمور خاطئة، ويُعزى السبب لأسباب منطقية جدًا لم نفكر يومًا في محاولة فهمها والبحث عنها.
مع الوقت تغيرت طقوسي أثناء القراءة ، فهذا يحتاج لكوب قهوة وهذا إلى قطعة من الكعك بينما الآخر يحتاج لتركيز لا يقطعه أي شيء آخر.
بدأت أتعوّد على فترات جمود القراءة و أتفهم أسبابها، كما بدأت أعرف أكثر ماذا أحب وكيف أختار كتابًا مناسبًا.
ثمّ إنني احتجت أحيانًا للقراءة مشيًا أو في انتظار موعد، أو بالسيارة، حتى بات الوضع اعتياديا بالنسبة لي، متى ماكان الكتاب لايحتاج لكل ذلك التركيز. الجميل جدًا أنني في هذه المحاولات بدأت ألاحظ أنّ الكثير من حولي في مقاعد الانتظار يقرؤون أيضًا.
ورغم أنني بالعادة أحمل كتبي معي أينما ذهبت، إلا أنني أحتاجها أكثر حين أنسى إحضارها، لذا مؤخرًا قررت محاولة عقد صلح بيني وبين الكتب الالكترونية كونها أخف في الحمل ، على الأقل في أوقات الانتظار.
القراءة بالنسبة لي هي ضرورة أكثر من كونها هواية كما يعتبرها البعض، كما أنني مازلت أراها المصدر الأول للتعلّم.
لست أطيل عليكم لكنني فعلًا أجد نفسي ممتنة لكل شيء جعلني أقرأ مبكرًا، لكل القصص التي قُصّت عليّ، وكل الحكايا التي قرأتها. حتى أصبحت فكرة أن أحبب طفل في القراءة هي الأفضل بنظري، لذلك في كل مرة يزورنا طفل يحب القصص فإني أعطيه مابقي لدّي منذ طفولتي بكل رضا، ممتنة لنظرة السرور في عينيه. فإنني أؤمن بأنّ قراءة تبدأ اليوم، ستجيب عن الكثير من الأسئلة غدًا، وتعود لصنع أسئلة جديدة بعد غد. ممتع!
عمومًا، هذه التدوينة مختصر لحكاية ما زلت أهوى بدايتها مع ماجد، وما زلت أشعر بلذة انتظاري لكل أربعاء بطفولتي، وحماسي لقراءة مجلد ميكي للأخير. ومشاعر البداية هي المحرك الأول في كل مرة أصل فيها لجمود القراءة حتى تعود إليّ الحماسة من جديد.