الحياة: بين الواقع والوهم

 

فوضى الانترنت في تصوير حياة غير واقعية مستمرة وعجيبة، ممتدة لكل جانب في حياتنا اليومية. ومضللة للكثير خصوصًا من الأجيال التي نشأت على وجوده. ففي العمل تبدو الحياة منتجة وفعّالة ورائعة، وفي البيت كل شيء يبدو بأفضل شكل ممكن، وفي العلاقات كل شيء يبدو ساحرًا ومثالي ومبهج، في جانب الصحة وفي جانب التعليم، والاهتمامات والهوايات كل شيء يبدو كما لو أنّ هناك روتين مثالي وسهل لكنك تفتقر له بكل بساطة. ومن المهم جدًا للحصول على كل هذا أن تتوفر عندك المادة ليكون عندك كل أداة ممكنة لتسهل عليك الحياة ككل، فبدونها لن تستطيع الوصول لهذه النتيجة وبدونها لا بأس لكن جزء من الحياة يفوتك!

ولست أدري إنّ كان علي أن أتطرق لجانب الجمال للمرأة كذلك، فمع كل ترند جديد عليك أن تواكبيه في كل لبس وشكل وتجميل، عدا ذلك لا تبدين أنثى بالشكل الكافي. مع ملاحظة أن هناك دائمًا أمر إضافي في فعله تغيير سحري لشكلك وأنتِ تفوتين الفرص!

كل هدف في كل جانب يتضمن مادة أو يصل لمادة. محتوى مكثّف بأهمية الاستحقاق والذي عليه يُبنى كل شيء فأنت تستحق شخص يضيف لك ويرفع من مستواك ماديًا، وتعليم يمنحك مادة أكثر لأنك لا تستطيع بدونها، وعمل يطلب منك شهادات مستمرة لتتمكن من الوصول لهذه المادة، ومع ذلك عليك أن تستثمر وتسعى أكثر لأنك بدون هذا السعي ستظل بائس في مكانك وهذا ليس كافي.

والكثير من هذا المحتوى وذاك يفتقر جدًا للمصداقية، يفتقر للقيم الحقيقة، الكثير من هذا يُصور لأنه لقمة عيش للآخر وليس لأن الاخر يبذل جهده لمساعدتك. هو يبحث عن رزقه وأنت تساعده في ذلك، هو يقدم لك فكرة أنك تحتاج لهذه اللبس وهذا التطبيق وهذه التجربة وتلك القهوة وأنت تمنحه ذلك.

ملاحظة: لست ضد أهمية المادة في حياتنا، لكن جعلها محور تُبنى عليه كل سبل العيش والعلاقات والعمل والدراسة هي برأيي مبالغة وسطحية بحتة. هل هذا يعني بأنّ على الجميع أن يتخصص في شيء لأنه يعني مستقبل بمادية أفضل من غيرها؟ وأن يعمل في مكان لذلك السبب؟ وأن يقيم علاقات اجتماعية لأشخاص من الممكن الاستفادة منهم لاحقًا؟ هل هذه حقيقة وجودنا وأهميتنا وأساس قيمتنا اليوم؟

من السهل أن يشيع المحتوى البسيط والسطحي لأنه أقرب للناس وأسهل للتفكير المتحيّز والذي يثير الشجون والمشاعر أكثر من المنطق والتحليل. ومنصات التواصل أذهلتنا في ذلك أكثر وأكثر. لذلك يسهل على الشخص تصديق أنّ الاستحقاق سيغيّر معيشتك، فقط فكرّ بأنك تستحق أن تكون ذلك الشخص وأن تعيش تلك المعيشة، يرفض البعض فرص التقدّم وأن يبني حياته ويسعى في تعليمه وفكره لأن كل تركيزه على أن حدث ما سيغير كل مايمر به. أن تستحق شخص لا يرفض لك طلب في الحياة، تستحق عائلة تدللك في كل جانب، ثم يظن بأنه مظلوم وضحية وحياته مؤلمة، تستحق أن يحدث لك كل خير وحب، ثم يتفاجأ بأن هناك أشخاص سيئين ومجتمعات لا يمكن العيش فيها. مفاهيم مبتذلة ومتخبطة تأخذ من كل جانب وتُرمى للمتلقي الذي يظنّ أن هناك خللًا ما في حياته.

أنت تجذب ما تريد وما تريد سيأتيك إذا فعلت كذا وكذا، إذا آمنت أنك محظوظ ستأتيك الفرص وإذا لم تركض ستبهرك الحياة وتلاعب بالمشاعر والأفكار يحدث بشكل مؤسف. يلامس المرء على مايراه في علاقاته وفي عمله وفي حياته، تركيز تام على أنّ الفرد يملك المسؤولية التامة عن كل جانب، ومتى ماحدث خلل “فانظر إلى نفسك، أنت تجذب ذلك، هذا الأمر السيء هو انعكاسك..” محتوى يتكرر ويعكس ضآلة فكر وفهم للحياة ككل. وعبارات تتكرر لا تمت للحقيقة بصلة “فأقداركم تؤخذ من أفواهكم” وكأنّك كشخص تخلق حياتك أو تتحكم بما يحدث فيها.

رغم أننا على الأقل كمسلمين نؤمن بالقضاء والقدر ونعي تمامًا أن كل أمرنا بيد الله وحده. وفي الحديث ورد “يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكَ كلِماتٍ ، احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تجاهَكَ ، إذا سأَلتَ فاسألِ اللَّهَ ، وإذا استعَنتَ فاستَعِن باللَّهِ ، واعلَم أنَّ الأمَّةَ لو اجتَمعت علَى أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يَنفعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ لَكَ ، ولو اجتَمَعوا على أن يضرُّوكَ بشَيءٍ لم يَضرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتبَهُ اللَّهُ عليكَ ، رُفِعَتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحفُ” و “واعلَم أنَّ ما أصابَكَ لم يكُن ليُخطِئَك وما أخطأكَ لم يكُن ليُصيبَكَ ، واعلَم أنَّ النَّصرَ معَ الصَّبرِ ، وأنَّ الفرجَ معَ الكربِ ، وأنَّ معَ العُسرِ يُسرًا” فكل شيء مكتوب لنا سيكون، وكل شيء ليس مقدر لنا فهو كذلك.

ورغم سعينا لن يأتينا سوى ماكتب الله لنا، ورغم كل شيء لن يمنع أحد رزق الله عنّا ففي قول النبي ﷺ: “لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها.” نعم في السعي أجر، وفي العبادات بركة وفتح باب خير لنا إن شاء الله ومع ذلك ففكرة أن تكون حياتك متمحورة حول المال والمادة والسعي الحثيث في ذلك وعدم الرضا بما تملك والتقليل ممن لا يسعى في كل استثمار وكل فرصة هو مبالغة برأيي. نعم نحن نختلف، ولا ليس حلًا واقعيًا لكل شخص أن يفعل كل هذا. وفكرة أن يأتي كل شخص من برجه العاجي ليشرح للآخرين جهلهم وقدرتهم على أن يكون في طبقة أفضل وكأنّ الفرص تنقلك من نقطة أ إلى ب بكل سهولة، هي استخفاف حقيقي بعقول الناس.

-١-

تأتي لصعيد العمل، فتشاهد محتوى يدعوك لأن تكون كل حياتك متمحورة حوله. أن تعمل بلا توقف، تسعى في كل اتجاه، أن تنس من أنت وما أهميتك وأن تعلق كل قيمتك بما تعمل. محملة بفكرة أنّ عليك أن تتقبل كل شيء حوله وأن تتحول لشخص بلا موقف ولا رأي، وفي حال واجهتك عقبات فهذه مشكلتك أنت وحدك، سأعود لهذه الملامة لاحقًا. عليك أن تنجز باستمرار، فالعلاقات الاجتماعية ملحوق عليها، والرفاهية لا تحتاجها في هذا الوقت وكل ما يهم هو أن تسعى لأن تصل لاحقًا، رغم أننا نعرف بأن كل هذا السعي لا يعني حتمية الوصول. من الممكن أن يُنظر إليك بنظرة دونية لأنك لا تعمل في البيت وفي السفر وبين العمل للمنزل وفي كل حين. هناك خلل، عليك أن تتسم بسمات الآلة، لكي تنتمي لهذا المجتمع. عليك أن تكرس كل حياتك لشيء واحد فقط. وأيضًا في حال عدم رغبتك في أن تكون هذه حياتك فأنت كسول ولا تستحق شيء، وفي حال رغبتك مع عجزك فهذه مشكلتك أيضًا.

-٢-

العائلة واختلاف الأسر والشخصيات والظروف والبيئة ككل، وعلى هذا الاختلاف تنشأ وتفهم نفسك والآخر ونقط تقاطعكم واختلافكم في الوقت نفسه. ثم تتوزع النصائح في كل مكان -رغم أنني لست ضد الفكرة- حول مايمكنك عمله في كل سيناريو، والكثير مما نراه اليوم من سيناريوهات وقصص تطلب المساعدة مجرد كذب وغير واقعية وزيادة مشاهدات وتفاعل. لكن الأدعى للعجب فعلًا هو مشاهدة التعليقات عليها. فهناك حلول سحرية مثل “عليك أن تعتزل مايؤذيك وأن تقطع علاقتك بهم. حاول تغيير سكنك وقلل التواصل، كيف تتحمل كل هذا الألم بدون فعل شيء”.. حلول تفترض أننا في عالم آخر حيث كل الموارد متوفرة للشخص، والغلط يكمن فيه بالتأكيد.

-٣-

العلاقات الاجتماعية وأهمية وجودها كجانب رائع مردوده على الصحة وإضافة مذهلة لحياة المرء إذا ما رُزق صحبة طيبة. ومع ذلك شعارات تتكرر في كل مكان عن أهمية قطع كل علاقة تلقائيًا لأنها لا تضيف لك، أي علاقة لا توصلك لأمر ما، مالحاجة لها؟ نعم بكل بساطة لأننا آلات تفتقر للحس والمشاعر ولفكرة وجود رفقة بالحياة.

يزهد البعض بأي صحبة لأي سبب، يعتقد بأنّ كل وجود في حياته لا بد أن يضيف له بشكل مباشر كأن يعمل في مكان مهم أو يوصله بشخص مهم. ينسى أننا كبشر نحتاج لبعضنا، وأننا في تكويننا الاجتماعي نحتاج لهذا التقارب ولهذا الانتماء.

-٤-

في الدراسة وفي التعليم تجد جانب الهوس في أن يكون كل اهتمامك في تخصصك فقط. كل حديثك وحواراتك. كل وقتك يبنى على الدراسة وعلى أمور تعزز من قيمتك كشخص في هذا التخصص، فبدونها تقل قيمتك. وجود اهتمامات أخرى لديك مثير للريبة، فكيف تملك الوقت الكافي؟ ويتعلّق البعض بهذا تعلقًا غريب، يحاول أن يقلل من كل تخصص ليس بتخصصه، ومن كل جامعة ليست بجامعته. هوس غير مفهوم على الإطلاق واستمداد كامل القيمة من شيء واحد فقط.

 

في حياة تتمحور حول الفرد، ينسى البعض أنّ كل ما نحن عليه هو بتوفيق من الله وفضله، وأن كل ما نملكه من نعم هي أرزاق من رب العالمين. أن كل شيء مكتوب بالأسباب أو رغمًا عن الأسباب، من الله وحده لا شريك له. فيروّج للفردانية ولأن نجاحك بيدك وسقوطك بيدك، علاقاتك السيئة بسببك ونجاح فلان بسببه، لا تستطيع أن تكون كذلك؟ مشكلتك. نعم في كل الظروف. وهذه جزء دخيل على ثقافتنا، وجزء لا يتوافق مع إيماننا. جزء يأتينا مما نراه اليوم في العالم وسهل ترويجه مع وسائل التواصل. جزء يشعرك بأن كل شيء في خلل إن لم يكن كما تريد وفي متمة، وأنّ الطبيعي هو أن تقدر على أن تجعل الأمور بمزاجك وتحصل على ماتحبّ وماتستحق! ومتى آمنت بذلك فسوف يحصل. جزء من التضليل الذي يروّج له الكثير ولست أشكك بنواياهم ولكن تسهل عليهم ترجمة بعض الاقتباسات فينشر مفاهيم مغلوطة، مفاهيم تعزز من تحيزات المتلقي وتدغدغ مشاعره فيظن أنه مسؤول عن تلك الفرصة التي لم تحصل له، وذلك النجاح الذي شعر بالخوف عند الإقدام على خطوته وفشل به، يعتقد بأنّ فكرة ما منعته.

رغم أنّ الواقع أبعد مايكون عن ذلك، وأنّ اختلاف الشعور طبيعي في كل حال. الخوف يحدث ونجاح الفرص من فشلها لا يُبنى على شعورك، فنحن لا نتحكم بكل فكرة وشعور عابر! الواقع أننا نسعى ونفكر بالكثير من الفرص والأهداف والسيناريوهات، المذهل والعادي والسيء، يعمل عقلنا طوال الوقت وتمر بنا أفكار كثيرة وحثيثة حسب مزاجنا ووضعنا وما يؤثر فينا. وهذه الأفكار لا تتحكم بفرصنا ومستقبلنا وما يحدث معنا.

الواقع أننا علينا فعلًا أن نعرف جوانب التأثير في حياتنا، ونحدّ منها، لأن كل شيء مؤثر وكثرة التعرّض لشيء ما تؤثر أكثر من غيره وهذا طبيعي وواقعي. فإذا كل يومي يذهب في أفكار غير واقعية من الطبيعي أن أسقطها على مايحدث معي، ومن الطبيعي أن يتحيز العقل لذلك أكثر وأكثر.

كلما أدركت جوانب ذلك كلما عرفت كيف تخفف من هذا التعرّض الذي نعيشه باستمرار في حياتنا ومع التغييرات التي تحدث في عصرنا. من المهم أن نعي جوانب التأثير وأن نسعى في تقليل ذلك وأن نحاول فهم مشاكلنا من جذورها لنحلها، ألا نختصر الطرق لنصل، فغالبًا الطريق ليس بصحيح. من المهم أن نفهم كيف نتحدث مع ذواتنا وألا نقلل من قيمنا لأننا لا نقوم بشيء ما مثل الآخرين وأن نسعى جاهدين لفهم قيمنا بالحياة لتتسم أكثر مع موقفنا منها وفيها، وألا ندع المقارنة تتسلل لنفوسنا في كل مرة نمرّ بمحتوى سريع يقيمنا ويخبرنا بأننا على خطأ مادمنا لا نملك هذا ولا نسعى لهذا ولا نؤسس حياتنا على هذا.

بعيدًا عن سلوك القطيع في تتبع كل مايحدث وعمله في لبس وشكل واستهلاك وعمل. نعم حتى بيئات العمل بالتحديد صارت اليوم تتغير باستمرار فكل فترة هناك جهة أفضل من جهة ويعتبر اسمها مميز ويضيف لك. بغض النظر عن العمل الحقيقي فيها أو نوعية المهام أو ما كانت ستضيف لك شيء على الصعيد المهني.

وفي حال كنت مهتمًا فعلًا بفهم السلوك البشري، بفهم مايحدث معك، بفهم العلاقات الاجتماعية أو أهمية هذا التخصص أو ذلك الاستثمار، أرجو أن تثق بنفسك كفاية لأن تبحث بنفسك من مصدر موثوق وأن تقوم ببحثك كاملًا عمّا تريده. لأنه لا أحد يمكنه القيام بذلك وفهم مواطن احتياجك سواك. تلقي بعض النقاط هنا وهناك لن يعود عليك بما تريد، وقد يضللك زيادة.

من الجيّد تذكير ذواتنا بأنّ التجارب تختلف كليًا، التجارب فردية والاختلافات كثيرة والطرق ليست واحدة. الفرص ليست موحّدة ولا الحياة محدودة بشكل واحد، لا روتين معين ولا كتاب محدد ولا علاقات ستنقذك وتغيّر كل شيء فيك وتنتقل بك لعالم آخر. التعلق بكل فكرة وشخص كأداة ستغير منك ليس حلًا. التغيير سعي مستمر وحثيث والتطور يأخذ وقته والتعلم يعني متعة وملل وإحباط في الوقت نفسه. كل شيء يستهلك وقت وجهد لتحافظ عليه، وكل العلاقات تمر بمنحنيات، كل المشاريع غير مضمونة وكل السعي نتعلم منه.

لا شيء ثابت، ولا شيء سيوصلك تلقائيًا بدون مجهود وسعي ومحاولة. حياتك لا ينبغي أن تكون مبنية على اختيارات الآخرين. أن يكون تخصصك على ميولك، ذوقك الخاص والمتفرد تراه في بيتك ولبسك، روتينك ونظام حياتك مبني على تفضيلاتك ومايناسب احتياجاتك، أمور عديدة قد تعتقد أنه مسلم بها لكنها نعمة فعلًا أن تكون واعي بها وتستطيع عملها بدون مشاعر ضغط مستمرة ومقارنات لا منتهية وسلسلة من الأفكار حول فعاليتها لأنها تخصك فقط.

وأخيرًا، في حال أتيحت لك الفرصة لأن تحكي قصتك، لاتنس أنّ المصداقية مكسب. لكل الذين يعتقدون بأنّ الحياة لم تمشِ معهم بالشكل الصحيح. أن تشارك حقيقة مايحدث، طبيعة الأمور واختلافها وتأثيرها، شعورك بالضعف وشعورك بالقوة، الرفقة في الطريق وتحسن الأمور، تأخر النتيجة وحصول أمور سعيدة من غير سعي، كل هذا يعين الآخر على أن يتقبل مايمرّ به، ويهون عليه من فكرة أن الأمور ليست بصالحه، كل هذا يمنحه أمل أكثر، يؤكد له أنّ الحياة ليست على وتيرة واحدة، وأن كل شيء يحتاج لوقت وجهد والكثير الكثير من الصبّر. بأنّ الأمور بيد الله ومنه نطلب المعونة ومعه يكون التوفيق والتيسير.

 

أضف تعليق

أضف تعليق

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

  • الأرشيف

  • مدوّنات أخرى

  • Goodreads